تحديث السبت 25/5/2024 صباحاً
تاريخ الحدائق النباتية
الحدائق النباتية ليست مجرد حدائق بالمعنى المتداول لهذا اللفظ بل هي مؤسسات علمية نباتية تمثل فيها الحديقة جزءً يسيراً بجانب الصوب الزجاجية، والمعشبة، والمكتبة، ومعامل الأبحاث. وتعد حديقة النباتات Botanical Garden متحفاً حياً يعكس المفاهيم العلمية والثقافية والتربوية والتعليمية لحياة النباتات المختلفة، ولها مكانة بارزة في إجراء البحوث العلمية المرتبطة بعالم النبات على الصعيدين الوطني والعالمي في مجالات حفظ وصيانة الأنواع المهددة بالانقراض. وتؤدي الحديقة النباتية من قديم الأزل دوراً رئيسياً نحو علم تقسيم النباتات؛ حيث إنها تعتبر مؤسسات علمية تعكس مدى التقدم الزراعي في أي دولة، وتضم عادة أهم العائلات النباتية التي تنمو بالمنطقة المناخية الموجود بها الحديقة، مع إمكانية جلب الأنواع الجديدة وأقلمتها وعرضها للجمهور.
يتم توثيق النباتات في الحدائق النباتية حسب تصنيف المملكة النباتية بزراعتها في أرض واسعة تضم أعداداً هائلة من النباتات الطبيعية الشائعة مع وجود معلومات كاملة بجانب كل نبات تكون بمثابة هوية موثّقة يتم فيها التعريف بالنبات، وكتابة الاسم العلمي، والفصيلة والشعبة النباتية التي ينتمي لها. وعادة ما تكون مرجعا للهواة والدارسين لعلوم النبات. ويزود كل نموذج نباتي بلوحة يكتب عليها الاسم العلمي للنبات وفصيلته التي ينتسب إليها مع تحديد موطنه الأصلي. وتلحق بحدائق النباتات مشاتل ودفيئات زجاجية لتربية النباتات في بيئات مشابهة لبيئتها الطبيعية التي تنمو فيها. ويتطلب تحقيق الأهداف العلمية للحديقة النباتية خبرات وتجهيزات رفيعة المستوى تمكن من تحديد الأنماط البيئية للنوع والصنف، ومن إجراء البحوث على نباتات بعيدة المنشأ، والقيام ببحوث التقنيات النباتية الحيوية، كتقنيات الإكثار الدقيق، وزراعة الأنسجة النباتية، واستنساخ النباتات، وتهجينها، ودراسة توارثها، وغيرها من الدراسات.
والحدائق النباتية وجودها ضروري في الجامعات ليتسنى للطلاب التعرف على النباتات عن قرب وأخذ المعلومات الكاملة عنها. وتزرع نباتات الحديقة لأغراض البحوث العلمية والتعليمية ولدراسة النباتات من النواحي البيئية والشكلية والوظيفية. كما تضم أكبر مجموعة من أنواع وأصناف النباتات المحلية والمستوردة الموزعة حسب الفصيلة التي تنتمي إليها. والحديقة النباتية مشروع باهظ التكاليف من حيث اختيار المكان، وتخطيط البناء، والتأهيل العلمي للموارد البشرية في مجالات: الاختيار وتحديد الأهداف، وبناء المكتبة التصنيفية، وإقامة المعشبة وتحديد أغراضها، ودراسة وتأهيل النباتات الاقتصادية الغذائية والكسائية والدوائية. ومن المعروف أن جميع جامعات العالم يتبعها حدائق نباتية خاصة بكل منها، ومسجل بالفهارس النباتية حاليا نحو 800 حديقة نباتية، وتوجد بمصر أربع حدائق نباتية مسجلة ومن المفترض أنها تابعة لمعهد بحوث البساتين كمعهد علمي متخصص به قسم بحوث الحدائق النباتية وهو القسم المنوط به الإشراف وتطوير هذه الحدائق. ويجب المحافظة على هذه الثروة التاريخية والحضارية، وتطويرها، والاستفادة منها بكل الطرق التي تعود بالفائدة على الحدائق نفسها، وعلى طلاب العلم، وعلى المجتمع في النهاية. ولابد لنا من الاهتمام والمحافظة على الحدائق النباتية الكبرى بمصر لما تحتويه من تنوع في الأصناف والأنواع والأجناس والفصائل النباتية وعدم اعتبارها مجرد متنزهات عامة ليس لها صبغة علمية.
لمحة تاريخية
شعرَ الإنسان منذُ بدءِ الخليقةِ بحاجتهِ الشديدةِ إلى مكان تهدأ فيه نفسُهُ، وتطمئنُّ إليه أحاسيسه ويستريحُ فيه بالتطلّع إلى جمالِهِ، ويُعوّضُهَ الكثير عمّا يُصادفُهُ من تعبٍ ومشكلاتٍ في عملِهِ وفي حياتِهِ، ولهذا تطلّع لإقامة الحدائقُ النباتيةُ لتكون رباطاً قوياً بين الإنسان وما يحيطُ به من عالم يعيش فيه. ولا يدرك سوى عدد قليل من الناس أن لحدائق الحيوان وحدائق الزينة تاريخا طويلا إلى حد يدعو للدهشة. فقبل نحو 5000 سنة اختُرعت الكتابة وشُيِّدت المدن الأولى في الشرق الأوسط. وخلال 700 عام من هذه الإنجازات التاريخية العظيمة بنى فراعنة مصر أهراماتهم الشهيرة، وأنشأ ملوك بلاد ما بين النهرين الإمبراطوريات الأولى في العالم، وأقام الحكام في كلتا المنطقتين حدائق النبات ومعارض الحيوان. وغالبا ما احتوت تلك الحدائق على أشجار نادرة وأقفاص من الطيور الجليبة exotic وبحيرة في الوسط تعج بأسماك ملونة غير عادية. ويأتي الدليل الفني الأوفر في مصر من مقابر يعود تاريخها إلى ما قبل نحو عام 2500 إلى عام 1400 قبل الميلاد. أما الدليل الأغنى من بلاد ما بين النهرين فيأتي من بقايا لقصر آشوري قبل نحو عام 880 إلى عام 627 قبل الميلاد. وعلى امتداد تلك الفترة في كلتا المنطقتين تصف سجلات كثيرة مكتوبة على ألواح الفخار أو ورق البردي أو على جدران القصور أو القبور ـ وأنشأ الملوك، وأحيانا بعض كبار المسؤولين الآخرين، حدائق عادية وأخرى للحيوان بغرض المتعة والوجاهة وإشباع الفضول العلمي. وسَجَّل الحكام أنهم جمعوا العديد من حيواناتهم وبذورهم وأشتالهم من أراض بعيدة، وأنهم كثيرا ما كانوا يسيّرون حملات خاصة لهذا الغرض، أو أنهم تلقوا طرائدهم على شكل هدايا من حكام أصدقاء أو شعوب. وبسبب اعتزازهم بمقتنياتهم، بذلوا جهودا مضنية للتأكد من أنها ستعيش وتتكاثر، وغالبا ما كانوا يستخدمون مروِّضين وبستانيين للعناية بمخلوقات صعبة الترويض ونباتات حسّاسة، وأنشأوا أجهزة ري مبتكرة.
وتتجلى الكبرياء الملكية بشكل واضح، على سبيل المثال، في قصة منقوشة في مجمع دفن الفرعونة حتشيپسوت في طيبة قبل نحو عام 1460 قبل الميلاد. فقد كان لدى حتشيپسوت فكرة ذكية في الحصول على شتلات من نبات المرِّ من القرن الإفريقي للبدء بزراعتها في مصر، إذ كان استيراد صمغ نبات المر اللازم للتحنيط ولحرق البخور مكلفا جدا. وقد قالت: «لم يُجلب قط ما يشبه هذا من قبل لأي ملك منذ بدء الخليقة.» ومع قيامها بهذا العمل حصلت حتشيپسوت أيضا على بعض قِرَدة الرُّباح (البابون) لحديقة الحيوان الملكية. وذكرت نصوص أخرى أن خليفتها تحتمس الثالث استمتع بحديقة حيوان تحتوي على أربعة طيور هندية «كانت تضع البيض يوميا»، وهي أول دجاج مدجن في مصر. وخلال القرن التاسع قبل الميلاد تباهى الملك الآشوري آشور ناصرپال الثاني من بلاد ما بين النهرين قائلا: «لقد جمعت قطعانا وقمت بإكثارها. ومن بلاد سافرت إليها وهضاب جزتها لاحظت أشجاراً وبذوراً وقمت بجمعها.» وتتحدث مقطوعة غنائية من القرن السادس قبل الميلاد من جنوب بلاد ما بين النهرين عن عجائب النباتات الجليبة التي أعلت من فَخار المدينة.
ومن القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد استوعبت الإمبراطورية الفارسية الشاسعة مصر وبلاد الرافدين كمقاطعتين لها. وتابع ملوك الفرس جمع الأحياء النباتية والحيوانية الغريبة أو الطريفة، ولكنهم أبدعوا مخططا جديدا أكثر رسمية لحدائقهم. فالحديقة الفارسية، التي كانت على شكل مستطيل محصور ضمن جدران مرتفعة، كانت تُقَسَّم عادة إلى أربعة أقسام متساوية بوساطة قنوات تتقاطع عند بحيرة صغيرة. وأطلق على الجِنان المتقنة هذه اسمpairi-daéza أي «المحاطة بالجدران»، وهو مصطلح حَوَّله اليونانيون فيما بعد إلى paradeisos أي الفردوس. وخلال الألف عام التي تلت أصبح «الفردوس» paradise مفهوما أساسيا في الفكرين المسيحي والإسلامي. لقد تطورت الحديقة المصرية وحديقة بلاد ما بين النهرين القديمتان إلى جنة عَدْن التي ذُكِرت في التوراة والقرآن، والتي هي صورة على الأرض للروائع الموعودة في السماء.
ويعتقد بعض المؤرخين أن تأسيس أولى الحدائق النباتية في العالم حوالي عام 2300ق.م يرجع إلى الحضارة السومرية في منطقة الرافدين التي كانت تدرب الناس على الأعمال الزراعية. كما وجد كامبل تومسون نحو 600 رقماً مكتوباً باللغة المسمارية دُوِّن فيها أكثر من 250 اسماً لنباتات طبية وزراعية كان يستعملها السومريون والبابليون والآشوريون في مجالات متعددة الأغراض كالغذاء والكساء والدواء والعلاقات الاجتماعية. واهتم العرب بالحدائق النباتية، والحديقة في العربية هي روضة الشجر، والجمع حدائق، وقد ورد هذا اللفظ ثلاث مرات في آيات الذكر الحكيم. ((أمَّنْ خلقَ السماواتِ والأرضَ وأنزلَ لكم من السماءِ ماءً فأَنْبَتْنَا بهِ حدائقَ ذاتَ بهجةٍ ما كانَ لكمْ أَنْ تُنّبتوا شَجَرهَا أَإِلهٌ معَ اللهِ بلْ همْ قومٌ يَعْدلون)) (النمل 60). ((حدائق وأعنابا)) (النبأ 23). ((وحدائق غُلبا)) (عبَسَ 30). ويعد الخليفة الأموي عبد الرحمن الداخل أول مؤسس لمفهوم الحدائق النباتية في أوربا؛ بغرسه عدداً من الأشجار الدمشقية في حديقة قصره وفي طليعتها نخلتان كانتا تؤنسانه في غربته. وأول حديقة نباتية أوربية أقيمت في فرنسا في القرن الخامس عشر في المدرسة الطبية في "مونبلييه" بإشراف العلماء العرب من الأندلس الذين عملوا على زراعة النباتات الطبية خاصة.
وتطورت الحدائق النباتية بسرعة لتشمل زراعة كل النباتات الوطنية، ثم تخطتها فيما بعد لزراعة النباتات العالمية التي يجلبها الرحالة والبحارة، كما كلف كثير من القادة العسكريين الفرنسيين بمهمات جمع النباتات من الأماكن التي يعسكرون فيها لتزرع في حديقة مدينة طولون وغيرها من المدن الفرنسية ولكي تزود بها الحديقة الملكية الملحقة اليوم بالمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس. وأقيمت بعد ذلك حديقة "كيو" في لندن وحديقة النبات في "نيويورك". وتختلف الحدائقُ النباتيةُ في طرازِها بالنسبةِ للعصر التاريخيّ، والبلد الموجودة فيه. فهناك الطّراز الفرعونيّ، وكان موجوداً منذ ألفيّ سنة قبل الميلاد، وكان الغرض الأساسيُّ من إنشاء الحديقةِ هو غرضٌ دينيّ، أو عقائديّ، حينما أراد قدماء المصريين تجميل معابدهم، وتجميل قُصور الملوك والأثرياء. والطراز الآشوريّ والبابليُّ ظهر في بداية القرن السابع قبل الميلاد في منطقةِ ما بينَ النهرين (نهريّ دجلة والفرات) بسوريا والعراق، وكان هذا الطرازُ تقليداً للطراز الفرعونيّ بعد أن تمَّ الغزوُ البابلي لمصر. وظهرَ الطرازُ الهنديُ في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، وامتازَ هذا الطراز بالاهتمامات الروحانية خصوصاً بتعاليم بوذا، وتعاليم بعض الديانات الأخرى. وكان الطرازُ الرومانيّ والإغريقيّ موجوداً في القرنين الثاني والأول قبلَ الميلادِ، وظهر بعد غزوات الاسكندر الأكبر لبلاد الشرق.. وعندَ عودة الإسكندر الأكبر إلى بلادهِ أخذ معهُ تصميمات الحدائق التي رآها في بلاد الشرقِ. والطرازُ اليابانيٌ بدأ في عصر الامبراطور «سويكو» حوالي 600 سنة قبل الميلاد، وهو طراز قائم بذاتِهِ، ولم يكن اقتباساً أو تقليدا لأيّ من الطُّرُز الأخرى.
تعليقات
إرسال تعليق